"يلي حبك غير عمري ونسم بقلبي هواك" بقي الحب ورحل بلال.
هذا المقطع من أغنية معروفة كنّا نرددها في جمعات الأصدقاء، كان بلال يغنيها بطريقة غير عادية تنقلك في حالة حب دافئة حتى وأن كنت لا تحب، عندما سمعته لأول مرة يغني المقطع بالتحديد في بيت صديق لنا في الشجاعية بالقرب من بيتي.
هذا المقطع من أغنية معروفة كنّا نرددها في جمعات الأصدقاء، كان بلال يغنيها بطريقة غير عادية تنقلك في حالة حب دافئة حتى وأن كنت لا تحب، عندما سمعته لأول مرة يغني المقطع بالتحديد في بيت صديق لنا في الشجاعية بالقرب من بيتي.
بلال عقل إنسان طموح جدا ومثقف عال، صاحب عقلية غير عادية ولا يعجبها أي شيء، يصنع لنفسه دائرة خاصة فيه لا يدخل فيه أحد غيره، بلال درس القانون في الجامعة الإسلامية بغزة، خلال دراسته فتح متجر إلكتروني لبيع المشغولات اليدوية وكان يهتم كثيرا بالأشياء التي تعبر عن الوطن، البلايز المرسوم عليها القدس أو المكتوب عليها عبارات تعبر عن المقاومة، أو الحقائب التي يكون عليها الكوفية أو خارطة فلسطين، إنسان يبني نفسه من خلال تجاربه، لا يخاف من الفشل لأنه يدرك تماما أنها كانت فرصة للتعلم.
بعد سنوات تخرجه وعمله مع والده وأهله في بيع الأدوات المنزلية في منزلهم في مخيم النصيرات، بيتهم يتكون من ثلاث طوابق، في الطابق الأخير يسكن بلال وأهله وأمام بيتهم ساحة على عكس جميع بيوت المخيم لأن بيوت المخيمات متلاصقة ببعضها البعض، كنّا ننتظر بلال أنا وأصدقائي في هذه الساحة عندما نذهب للجلوس على سطح بيته، كنّا نجتمع بشكل مستمر وننتظر الصيف كي نذهب للبحر يوم الجمعة من الصباح لنقضي يومنا كامل على الشاطئ، نأكل سويا، نلعب ورق الشدة، نلعب كرة الطائرة ونعزف ونغني سويا آخر الليل، قرر بلال مع والده فتح شركة لهم في سوق النصيرات وأنه المحل الخاص بهم في بيتهم غير كافي للعمل والتوسيع لأن مكانه غير مناسب ولا يراه الكثير من الناس على عكس المكان الحيوي وسط السوق، عارضه الكثير من الأصدقاء على التكلفة المالية لخطوة كهذه وأن مكانهم في حواصل بيتهم لا يكلفه شيء، لكنه كان مُصر على خطوته وقام بفعلها ونجح في ذلك المشروع لأنه شخص ذكي، كان عندما يترك بلال الشركة لساعات نلتقي بها لا يتوقف هاتفه عن الاتصالات لأن الجميع يرغب بالتعامل معه أكثر من غيره المتواجدين معه.
في هذا العدوان على غزة عمل بلال بأشياء أخرى غير الأدوات الكهربائية التي كان السوق بحاجة لها، لكنه كان يفعل شيء لا يفعله إلا من يحب وطنه، كان هناك صعوبة في الوصول للبنوك وسحب الرواتب بسبب قلة السيولة في البلد وقصف البنوك وتسكيرها عندما يدخل الجيش المنطقة، لذلك صار هناك عمل جديد للناس وهو سحب المال لمن يريد بنسبة عن طريق التطبيق الخاص بالبنك، كانت تصل العمولة إلى 10%,15%,20% وأكثر حتى شعرنا أن هؤلاء الناس ستشاركنا لقمة عيشنا، بلال من خلال البيع في السوق كان يتوفر في يده سيولة وكان يعطي دائرة معارفه بنسبة 5%، القليل جدا من الناس كانت تعطي هذه النسبة، بهذا الفعل كان يساعد الناس في تعزيز صمودهم في مثل هذا الوضع الذي يخنقهم من كل الجوانب.
بلال صوته جميل ودافئ جدا، اعتدنا أن نجتمع دائما على يطح صديقنا محمد غنيم، نجلس نأكل سويا، نحكي عن أوضاع البلد، عن الروايات والشعر، عن كرة القدم، وعن النكات الجديدة التي يصنعها هو أو يسمعها من المسلسلات المصرية التي يقترحها لنا محمد، كان يمسك محمد العود ويضرب ويغني خلفه بلال ونغني معهم بصوت واحد، كنّا نغني جميع الأغاني الوطنية بشكل تسلسلي، كان كاتبا، يجيد اللعب بالكلمات، يُرقصها كما شيء، يقرأ بنهم، يسبق الحياة بخطوة.
في اليوم الذي خرجت فيه من مستشفى الأوروبي ونزحت في النصيرات لمدة ثلاثة أيام حتى نجد مكان لي ولعائلتي وعلم بلال بوجودي في النصيرات، طلب من أمه طبخ معكرونة بالباشميل من أجلي، لم يكن بعرف بلال كيف أحب المعكرونة، دون فليفلة وبصدر الدجاج بعكس ما يطبخها الكثير باللحمة المفرومة مع فليفلة، كانت أكلة اشتقت لها كثيرا لكني لم أعرف أنها أكلة الوداع، قبل يوم واحد من قتل بلال على يد جيش الاحتلال الصهيوني كنت عنده في الشركة أنا ومحمد، قال لي ابقى هنا لغد كي نجلس على السطح في اليوم التالي، قلت له لا أستطيع، لو كنت أعرف أن هذه الجلسة ستنقذ حياتك لبقيت، في اليوم التالي قُصفت شقة أهل بلال بصاروخ حارق، الصواريخ الأمريكية التي دخلت للجيش مؤخرا، تعرض بلال وعائلته كلها للإصابة بالحروق بدرجة عالية، جده، أبوه،بلال، أخو الأصغر منه والآخر طفل وطفلتين وأمه، جميعهم مصابين بحروق بنسبة 40% وفوق، بلال بنسبة 65%، قال الأطباء أن جميعهم تعرضوا لتسمم بسبب البارود، جلدهم بالكامل غير موجود وبسبب التلوث في قطاع غزة بهذه النسبة لا يوجد علاج لهم، الأمر متروك لأجسادهم وقدرتها على التحمل والتعافي.
عندما دخلت المستشفى لأرى بلال كان في العناية المركزة على الأرض لعدم توفر مكان له بسبب عدد الاصابات لم أعرفه بسبب الحروق بكامل جسده، بعد ثلاثة أيام فقدنا والد بلال، بعد يومين فقدنا بلال وفي اليوم التالي فقدنا أخيه الأصغر منه واليوم نفقد أمه وبقي الأطفال وحدهم، رحل بلال ومعه كل ذكرياتنا وبقي الحب وحده في قلوبنا.
نشر هذا النص على موقع حكاية ما انحكت