معاناة النزوح: رحلة البقاء في غزة الثلاثاء 2024/7/9

النزوح للمرة الخامسة على الأقل كان مختلفًا. تسعة أشهر وأنا وعائلتي نازحون في مستشفى غزة الأوروبي. متى ينتهي كل هذا ونعود لبيتنا؟

معاناة النزوح: رحلة البقاء في غزة الثلاثاء 2024/7/9

إن معركة الوعي تتعاظم كلما زادت تجارب الإنسان، وكلما شعر بميل إلى العزلة والاختلاط بقدر الحاجة. لكن هذا لا يعني العيش بمعزل عن الجماعة، إذ علينا العمل على تماسك الأهالي ثم المجتمع.

النزوح للمرة الخامسة على الأقل كان مختلفًا هذه المرة. تسعة أشهر وأنا وعائلتي نازحون في مستشفى غزة الأوروبي، نستخدم كل ما نستطيع من مقومات المستشفى لتسهيل الحياة، بعدما قُصف البيت فوق رؤوسنا وأُصيب والدي إصابة خطيرة ونجا الجميع من الموت الذي بقي يلاحقنا.

قبل خمسة أيام كنت في يوم عمل شاق، وذهبت للنوم ظهرًا. عندما استيقظت بعد ساعة، وجدت جميع من في المستشفى يتحدث عن الإخلاء. كان جيش الاحتلال يتصل بالعديد من الناس في المستشفى، ليخبرهم بإخلاء المستشفى فورًا والتوجه إلى المناطق الإنسانية. سارع الجميع بحمل ما يستطيعون من أغراض والتوجه إلى مواصي خانيونس. توجه العديد إلى أماكن مختلفة مثل دير البلح والنصيرات رغم خطورة هذه المناطق، لكن الناس لم يكن لديها خيار آخر. غزة كلها انحصرت في أماكن ضيقة، ولا يمكن العثور على مكان آمن بسهولة.

قررت أنا وأهلي الذهاب عند صديقي في النصيرات خوفًا من دخول الجيش المستشفى في أي لحظة، لأنه قد حدث ذلك من قبل في رفح، ولم يعط الناس الوقت الكافي للإخلاء. قررنا الذهاب إلى هناك، ثم في اليوم التالي نبحث عن مكان لنا ننصب فيه خيمة.

حاولنا تشغيل سيارة أخي لساعات طويلة، بعد أن تضررت عندما قُصف بيتنا. حين تمكّنا من تشغيلها، كان قد حل الليل ومعه الخوف من سواده. الناس كانت تتحرك داخل المستشفى بشكل عشوائي، ومحاولاتنا للحصول على سيارة أجرة باءت بالفشل. كل السيارات كان قد حصل عليها أشخاص آخرون قبلنا. طابور من السيارات كان في الشارع الذي يؤدي إلى مدخل المستشفى، الشارع نفسه هو سوق حيوي للنازحين والمرضى. الباعة أيضًا انقلب حالهم هناك، وبدأ الجميع ببيع الفواكه بأسعار رخيصة جدًا مقارنة بما كان عليه الحال قبل ساعة واحدة. الشارع متوسط العرض، طابور السيارات والنازحين في كل مكان، يبحثون عن طريقهم للنجاة. الباعة ينادون على بضائعهم بأسعار رخيصة، وهناك حركة شراء كبيرة لأنها فرصة للمتسوقين، وهذا زاد من ازدحام الشارع. أصحاب سيارات الأجرة يطلبون أسعارًا مرتفعة لنقل الناس، الذين لا خيار لديهم، فنجاتهم هو المهم فقط.

الساعة التاسعة، بعد أن حملنا جزءًا من أغراضنا على السيارة المتهالكة، قررت الذهاب بهم إلى بيت صديقي محمد في النصيرات، حتى نجد مكانًا في اليوم التالي. مشيت بنا السيارة، كانت الطريق مزدحمة جدًا، والسيارات في كل مكان. من لم يجد سيارة ركب “الكارة والحمار”، ومن لم يجد شيئًا، بدأ يمشي على أقدامه من الخوف ويحمل حقائبه على ظهره. في منتصف الطريق، توقفت السيارات عن الحركة بسبب شاحنات الغاز التي دخلت عن طريق معبر كرم أبو سالم، وكأن الاحتلال يحاول التضيق علينا حتى ونحن ننجو بحياتنا. كانت السيارة بطيئة جدًا، والازدحام بدأ يختفي. الناس تنزح إلى المواصي ونحن نكمل طريقنا إلى النصيرات. لا أضواء في الطريق، سيارتنا الوحيدة التي تمشي في الشارع وصوت الطائرات من فوقنا يعلو. تمكّنا من الوصول إلى بيت صديقي، قمنا بإنزال الأغراض وحملها إلى السطح. جلسنا في غرفة اسبست بالقرب من حاجز نتساريم، صوت الطائرات عالٍ جدًا، القصف اشتدّ أكثر. كان هناك حدث خطير على الخط، ولم تتوقف المدفعية عن القصف لساعات طويلة. أمي وأخواتي لم يتوقفن عن القلق والخوف، ولم تتمكن أي منهن من النوم حتى ساعات الصباح.

في الصباح، بدأنا نفكّر في مكان ننتقل إليه. منطقة المواصي كانت مزدحمة ولا مكان هناك، لكن كنّا نحاول متأملين. في اليوم الثاني، اتصل بنا أحد الأشخاص، وأخبرنا أنه يمكن توفير خيمة لنا في مخيم الصمود في منطقة مواصي خانيونس، وإذا لم يكن ذلك متاحًا في اليوم الأول، فسيتم ذلك بعد يومين. ذهبنا إلى المخيم مع كل أغراضنا، لكن لم يُعطى لنا خيمة، على الرغم من حالة والدي الحرجة وتعرضه للشمس، وحاجته لثلاث عمليات جراحية في عينه. بقينا مع أقاربنا في خيمتهم في نفس المخيم، بينما ذهب والدي وأخي إلى مدينة أصداء في خيمة عمتي، ونحن في انتظار اليومين القادمين للحصول على خيمتنا الخاصة أو العثور على مكان ننصب فيه خيمة. رغم وجود خيام فارغة، إلا أن إدارة المخيم التابعة للمستشفى لم تُعطِنا خيمة، وقالت لا توجد أماكن أو خيام فارغة. بقينا في خيمة أم محمد لمدة يومين، 15 شخصًا في خيمة مساحتها 4×4 متر، مكسوة بالجلد، وأمام الخيمة ساحة صغيرة بمساحة 2×2 متر. كان لون الخيمة من الداخل والخارج أبيض كالكفن، كأنه قبر جماعي. تنام النساء داخل الخيمة والشباب خارجها في الساحة. خلال النهار، تكون الخيمة مشتعلة كالنار بفعل حرارة الشمس. العرق يغطي أجسادنا ولا نستطيع القيام بأي شيء خارج الخيمة، إلا بعد انخفاض حرارة الشمس خوفًا من ضربة الشمس.

يومين وخاب أملنا في الحصول على مكان في المخيم. ما يميز هذا المخيم عن الأماكن الأخرى هو توفر المياه ومقومات الحياة مثل الحمامات، وتصريفها بشكل جيد بالقرب من المخيمات بفضل دعم الذين ساهموا في بنائها. في الأماكن الأخرى، ستواجه صعوبات في الحصول على الماء ونقلها إلى مكان تواجدك، وستبدأ دوامة شراء الماء إذا لم يتوفر بالقرب منك مياه مجانية.

بعد يومين، اتصل والدي بنا وأخبرنا أنه وجد مكانًا لنا في مدينة أصداء. كان معه أخي الذي ذهب إلى السوق واشترى خيمة جديدة. بدأ هو وأقاربنا بنصبها، وفي ليل اليوم الثالث، جاءت السيارة لتحميل أغراضنا مرة أخرى ولننتقل إلى أصداء.

في صباح اليوم الرابع، بدأنا بتجهيز مساحة أمام الخيمة وتغطيتها. وضعنا أغراضنا فيها، وأقمنا حمامًا أرضيًا داخلها. انتهينا من تجهيزها في الليل، وعدنا إلى نفس المعاناة. الخيمة كانت حارة جدًا في النهار وباردة في الليل، مع مساحة قدرها 5×5 متر، وساحة أمامها بمقاس 3×3 متر. لون الخيمة من الخارج ازرق ومن الداخل أبيض، وشكلها سداسي.

أنظر إلى السماء من سقف الخيمة وأتساءل: متى ينتهي كل هذا ونعود لبيتنا؟

نشر هذا النص على موقع "حكاية ما انحكت"