العودة، الاثنين ٣ شباط ٢٠٢٥

في طريق العودة إلى البيت رأيت عبارات على الجدران كان الناس يكتبوها خلال نزوحهم من مكان إلى مكان، وأكثر ما شدني عباراتهم عن المقاومة أنهم يعتبرون أنفسهم بتواجدهم في الشمال مقاومة وبعدم تنازلهم عن الأرض وهذا ما كنت أراه فيهم

العودة، الاثنين ٣ شباط ٢٠٢٥

بدأت بتحضير حقيبتي يوم الخميس ليلا كي أعود إلى البيت صباح الجمعة، لم أحمل الكثير معي لأني سوف أعود إلى جنوب القطاع مرة أخرى بعد يوم، أمي وأبي وأخي أحمد عادوا إلى البيت يوم الاثنين الماضي الساعة السابعة صباحا عندما فتح طريق العودة، أبي الذي يعرج على قدمه بسبب إصابته، قطع 14 كيلومتر مشيا على قدمه كي يعود إلى البيت برفقة أمي، ذهب والدي مشيا من شارع الرشيد الذي سمح لنا الاحتلال بالمشي من خلاله في أول أيام الهدنة، لم نستطيع العودة من خط صلاح الدين بسيارتنا لأنها دُمرت في الحرب وتحتاج إلى تصليح وكل من لديه وسيلة نقل يعود بها لن يستطيع العودة مرة أخرى للجنوب لأن خط صلاح الدين خط عودة للشمال بتجاه واحد.

الأمر يحدث كما حدث عندما نزحنا من بيوتنا، العودة كانت صباحا دون علمنا، كنّا نائمين ثم بدأت الناس بالعودة إلى منازلهم المتبقية في وسط المدينة اما البيوت التي تقع على الحدود فلا يسمح لهم العودة إليها حتى دخول المرحلة الثانية.

أخذت حقيبتي وبدأت بالمشي من شارع الرشيد المسموح بالمرور من خلاله للمشاة فقط، من النصيرات إلى دوار النابلسي في غزة ما يقارب 7 كيلومتر، رغم حالتي الصحية السيئة مشيت، منذ يومين قمت بعمل تحاليل وقام بتشخيصي  الطبيب بقرحة في القولون بسبب الأكل غير الصحي طوال فترة العدوان و انتظر الآن حجز عملية لكشف عن حالتي مع مخاوف بعدم عمل أي شيء حاليا بسبب إنهيار القطاع الصحي.

الغبار في كل مكان، شعرت بالغثيان أكثر من مرة، الصداع أكل رأسي، والرماد من البيوت المدمرة تتزاحم بين هواء البحر النقي وتغلبه لتمرض صدورنا وتسرطن خلايانا.

المدينة بلا روح، لقد غيروا كل معالم المدينة، لا نعرف أين نحن، نتوه في كثير من الأحيان ونسرح أكثر في مشاهد الدمار وسؤال واحد عالق في ذهني، متى سيعود كل شيء كما كان! 

لم استطيع الشعور بالراحة بسبب عودتي لأن الحزن كان أكبر من أي شعور، تنهدت مرتين المرة الأولى عندما وصلت الشجاعية وأظن أن هذه التنهيدة كانت بسبب التعب الذي شعرت به طوال الطريق، المرة الثانية كانت عندما احتضنت خالتي نادية التي لم أراها منذ سنة ونصف، كل هذه المدة ونحن نتحدث على الهاتف ولا نعرف إذا كنّا سنرى بعضنا مرة أخرى، لكنه القدر يفعل كل شيء.

ذهبت من بيت خالتي إلى بيتنا، أحمل مع حقيبتي أنوبة غاز 2 كيلو لأمي، غاز الطهي في شمال غزة غير متوفر، يستعملوا الحطب للطهي، أخبرتني أمي إن أجلب لها الأنبوبة الصغيرة كي تساعدها بعض الشيء.

دخلت البيت بحثت عن أغراضي، ملابسي، الكتب، وغرفتي، غرفتي مدمرة، جدار البيت جزء منها غير موجود، لا يوجد شبابيك وكل أثاث المنزل مخرب، كنت قد تركت مجموعة من الكتب التي وصلتني من الأردن قبل العدوان، كان قلبي معلق بهذه الكتب وجدت بعضها ولم أجد البقية، شعوري كان غريب، لم أشعر بهذا من قبل، كيف لي إن أشعر بالغربة وأنا في بيتي، في حارتي، لكن كيف أشعر بالأمان والاحتلال هدم كل ذكرياتنا، الحارة كلها مخربة، والجميع هناك تغيرت ملامحه، لا يوجد مياه ولا كهرباء والانتظار يقتلنا. 

هدم الاحتلال حياتنا، هذا العدوان طال كل شيء، لقد عرف جيدا أن أكثر ما يوجعنا هي ذكرياتنا أكثر من الموت ذاته، دمر البيوت رغم قدرته بعدم فعل وذلك وعدم حاجته لفعل ذلك، لكنه يريد إعدام الحياة من مخيلتنا.

الشوارع أكثر غرابة من المرة السابقة التي تركت فيها المنطقة ونزحت إلى الجنوب بحياتي. 

في طريق العودة إلى البيت رأيت عبارات على الجدران كان الناس يكتبوها خلال نزوحهم من مكان إلى مكان، وأكثر ما شدني عباراتهم عن المقاومة أنهم يعتبرون أنفسهم بتواجدهم في الشمال مقاومة وبعدم تنازلهم عن الأرض وهذا ما كنت أراه فيهم، بعد مروري وسط البلد وركبت سيارة، سمعت رجل يقول أننا نحتاج إلى سنين لتعود غزة كما كانت، ثم رد عليه رجل آخر قائلا، هل ترى كل هذا الدمار وسط البلد لا شيء بالنسبة للدمار  في جباليا وبيت لاهيا، هنا تشعر بالقليل من الحياة، هناك لا يوجد حياة.

كل هذه المشاعر المتضاربة جعلتني أفقد شعوري بكل ما حولي ولا أعرف حقيقة ما أشعر به، غصة وخوف مع فرحة وقليل من الأمان، لم أشعر أني غائب كثيرا عن البيت، في بعض اللحظات حزنت كثيرا عليه وبعض لحظات أخرى لم أشعر بشيء أبدا، لكني الآن أشعر بالبكاء، أريد البكاء على كل ما مضى وبدأ حياة جديدة دون التفكير بالموت بسبب قنبلة أو صاروخ، لقد سلبتني الحرب جزء كبير من روحي.